4 min read
الواحات البحرية كجزيرة منعزلة

مقدمة:


نزل من سيارته الـ"ملاكي قاهرة" بعدما قام بركنها على أحد جانبي الطريق و أغلق أبوابها بإحكام ثم انصرف مسرعاً فقد وصل لتوه الى ذلك المكان الجديد لأول مره في حياته بعد رحلة قاربت الأربع ساعات في طريق منزوع الخدمات يحده من اليمين رمال صفراء لا تنتهي على مد البصر و من اليسار كذلك إلا شريط بسيط لقطار موازي للطريق يبدو أنه مخصص لنقل الفحم فيظهر ذلك من اللون الأسود الذي يوازي شريط القطار على جانبية من الفحم المتناثر من العربات الحاملة له و ينتهي عند نقطة معينة و يأخذ منحى يسار الطريق عمودياً عليه إلى مكان عرف بعد ذلك من أهل الواحة أنه منجم للحديد أقيم منذ الإحتلال الإنجليزي لمصر و مستمر الى الآن، لم يبتعد سوى خطوتان عن سيارته المركونة حتى سمع صوتاً متقطعاً يناديه من الخلف، إلتفت فإذ به رجلاً قارب السبعين من العمر يجلس على الأرض مستنداً الى الحائط المقابل لمكان السيارة، تبادر الى ذهنه للوهله الأولى أن الرجل قد تأذى من مكان ركن السيارة لأنها أمامه تماماً فرفع يدية الى الرجل العجوز معتذراً و همّ بنقل السيارة من مكانها فإذ بالعجوز يكرر النداء عليه قاصداً أن يأتيه، فذهب ... الرجل العجوز: "إنت قفلت عربيتك ليه؟" ... ارتبك الشاب القاهري لغرابة السؤال و أظهر ذلك في ابتسامه حائرة ارتسمت على وجهه فذاك شئ طبع روتيني يفعله دائماً هكذا بشكل عفوي دون قصد .. فأكمل العجوز: "الكلام ده عندكوا هناك في القاهرة يابني إنما هنا لا .. الدنيا هنا امان و دي تعتبر شتيمه في وشي و كدا عيب ما يصحش، روح افتح عربيتك و اتوكل على الله شوف انت رايح فين .." ... إنطلق الشاب و هو في حالة صدمة، فذاك هو المشهد الاول الذي يفتتح به الحلقات المسلسلة لعلاقته التي أستمرت لليوم بذلك المكان الذي يبدو مختلفاً للوهلة الأولى، "عوض" هو ذاك الشاب القاطن في المعادي خريج السياحة و الفنادق و الذي جاء الواحات البحرية ليبحث عن مكان جيد لبناء فندق مع شريك له في عام 1997. لم يكن ذلك المشهد الوحيد الذي يثبت ذلك الأمان الذي يقول أهل الواحات أنها تنعم به فكما حكى "سامي"  _رفيق الرحلة الذي يعمل في السياحة برحلات السفاري_ أنه منذ سنوات رأى بعينه و هو صغيرأن التاجركان يذهب لصلاته و يترك متجره مفتوحاً و بضاعته لا حارس عليها فيذهب و يصلي و يعود وهو يتيقن أنه لا مكروهاً سيقع بمتجره أو البضاعة التي بها فكل أهل الواحه معروفون لبعضهم بأسمائهم و أبائهم و أبنائهم و أجدادهم .. فهم وحدهم من يعيشون في تلك البقعة العمرانية المحدودة التي تتوسط تلك الجزيرة الخضراء المنعزلة في صحراء مصر الغربية الشاسعة، فمما القلق إذاً؟ إنعزال الواحات و استقلاليتها ميزها منذ الاف السنين عن وادي النيل من حيث التكوين و الخصائص و ساهم في تكوين ملامح رئيسية مميزة لتلك الجنة الخضراء التي تتوسط الصحراء كما يقولوا عنها أهلها، فبرغم اشتراكها مع وادي النيل في العصور و الحضارات التي مرت عليها من الفرعونية و الرومانية و القبطية و الإسلامية إلا أنها ظلت تحتفظ بإختلافات في جوانب أخرى كثيرة .. فوادي النيل يربط بين أقاليمه و مدنه من جنوبه إلى شماله جغرافيا و ثقافيا و حضارياً أيضاً ، و زاد على ذلك في العصر الحديث بوسائل الإتصال و التواصل من شبكات طرق و سكك حديد الى المطارات على خلاف تلك الواحات المتباعدة في قلب الصحراء، التي لم يُمد إليها طريق مرصوف فعلياً إلا في ثمانينيات القرن الماضي أي منذ قرابة الثلاثون عاماً فقط.


يحكي عم "أحمد" ابن الحاج "خلف الله علي أحمد" _السوداني الاصل و أحد قاطني الواحات الان_ عن والده الذي يعتبر أول سائق لأول سيارة دخلت الواحات في عام 1930 في حدث تاريخي حيث لم يكن هناك طريقاً أصلاً و يروي أنه مكث فيه سبعة أيام بلياليها حتى وصل من صعوبة الطريق و من تعرضه لفقدان الطريق في أحيان كثيرة، و كان مبتعث من وزارة الصحة في مهمه رسمية لتوصيل دواء لأهل الواحة، و يروي أيضاً فكاهه أخرى عن رجل يُدعى عم "حشيش" حيث أنه دخل قرية هناك تُسمى "الحيز" _و هي قرية صغيرة تبعد عن الباويطي مركز الواحات البحرية بأربعين كيلو متراً فقط_ بسيارته النقل و كانت المرة الأولى في حياة أهل القرية يرون سيارة أو يسمعوا عنها حتى، فإلتفوا حولها  يركضون و يسألوا سائقها و هم يضحكون: ياعم ياعم هي الدابة دي بتاكل إيه؟ .. فيقول لهم: حشيش _اي برسيم_ فأخذ أهل الواحة يلقون بالبرسيم في صندوق السيارة في فرحة غامرة، ثم يعودوا فيسألوه: هي مابتكلش ليه؟ فيقول لهم: هي بتستحي تأكل قُدّام حد، و ظلوا هكذا حتى امتلأت العربة عن أخرها و ذهب، يعقب عم "أحمد" ضاحكاً: عم حشيش دا أصلاً تاجر مواشي و راح جاب أكل المواشي بتاعته و رجع و فعل ذلك من باب الدعابة و من يومها سُمّي عم "حشيش" تخليداً لهذا الحدث .... قد تبدو القصة بسيطة و مضحكة نوعاً ما لكنها في طياتها تعكس معناً هاماً هو أن هناك أُناس داخل القطر المصري وصلوا حتى قرابة منتصف القرن الماضي لم يتعرفوا إلى أبسط مفردات ما يسميه الناس اليوم ادوات عصرية للحياة بل و لم يسمعوا عنها أصلاً على عكس أخواتها من المدن كالقاهرة و الاسكندرية و بعض محافظات الوادي و ذلك أحد تجليات تلك الإنعزالية التي أشرنا إليه سالفاً.


فأهل الواحات تخرج لهم المياة الجوفية في عيون يسمونها "فوّارة" أي تخرج وحدها من الأرض بإندفاع طبيعي و يأكلوا ما يزرعوه في أرضهم الخصبة بسهولة و يسر، يرعون ماشيتهم و يحلبوا لبنها و يربون طيورهم و يأكلوا لحمها و بيضها، و بهذا تكون قد اكتملت كل اسس الحياة البسيطة التي ساهمت بشكل واضح في استقلاليتها عن غيرها و عدم افتقارها الى سواها كما يوضح المقريزي في خططه منذ 600 عام حيث يقول: "الواحات منقطعة وراء وادي النيل في مغاربة، و لا تعد في الولايات و لا في الأعمال، و لا يحكم عليها من قبل السلطان أو الوالي، و إنما يحكم عليها من قبل مقطعها و بلاد الواحات بين مصر و الأسكندرية و الصعيد و النوبة و الحبشة، بعضها داخل ببعض، و هو بلد قائم بنفسه غير متصل بغيره، و لا يفتقر الى سواه." تمر السنون و تتغير الاحوال، و ان كانت الواحات قد صمدت في انعزالها الجغرافي  طيلة تلك السنوات، فهل استطاعت ان تصمد أيضاً أمام الإنعزال "التكنولوجي"؟ فمتى وصل "الموبايل" و "الدش" و "الانترنت" و كيف و ماذا فعل بالناس؟ كيف يعيش أهل الواحات و ماذا تغير فيهم في السنوات القليلة الماضية؟ متى و كيف دخلت السياحة هنالك؟ و ماتبعاتها؟ ما هي خريطة الأحلام و الطموحات لأهل الواحات اليوم؟ هل هي بسيطة كأجدادهم و أجداد أجدادهم أم ازدادت تعقيداً و تركيباً بفعل تعقيدات العصر؟ أين يعيشون و مما تبنى بيوتهم؟ و كيف؟ ماذا يشتغلون و فيما يصرفون أموالهم؟ ما هي علاقتهم بالدولة و مركزية القاهرة _مصر كما يسمونها_ و السياسة ؟ ..... هذه الأسئلة و غيرها الكثير تحاول هذه الورقات البحث عنها لتوصف الواقع و تتبع أسباب الوصول اليه قدر المستطاع.



التمرة و الرملة:


يعمل أهل الواحات اليوم مقسمين بين ثلاثة اقسام رئيسية و هم الزراعة و السياحة و الوظيفة الحكومية، حسب ما يقول عم "فرّاج" صاحب الثلاث و الخمسون عاماً فيخبرنا أن أغلب أهل البلد لا يزالون يشتغلون في الزراعة فالزراعة هي العمود الفقري لموارد الواحة و هي تشتهر بزراعة البلح و الزيتون و المشمش، و البلح تحديداً هو المنتج الرئيسي و الاهم و هناك 6 مصانع لتعبئة البلح و تغليفه محلياً فالنخل يأتي بعائد مادي جيد لأصحاب الأراضي فمن الممكن أن يكون متوسط دخل الأسرة في العام الواحد من 100 الى 150 ألف جنية من عائد البلح فقط" و حين سألته عن نسبة أهل الواحة الذين يتملكون أراضي تسمح لهم بمثل هذا الدخل فقال: "نصف أهل الواحة تقريباً يملكون تلك الأراضي فأهل الواحة ليسوا بفقراء كما قد يظن البعض، فأنا مثلاً موظف في الإرشاد الزراعي و مع ذلك عندي أرض و بزرعها و بتجيبلي فلوس زي ماقولتلك، و عندي _لامؤاخذه_ شويه بهايم يعملولهم في السنة حوالي اربعين الف مكسب كمان" فحينما نظرت إليه و سألته عن مرتبه قال: " أنا بقبض 1500 جنية في الشهر بجيب بـ 700 جنية سجاير" قال ذلك مستخفاً بأهمية المرتب و بوزنة النسبي في ميزانيته فعم فراج لديه من الأولاد الكثير و كلهم متعلمين و أغلبهم خريجي الأزهر في مصر و يفكر الان في عمل "كامب سياحي" على جزء من أرضه كمشروع استثماري".



عم فراج ليس هو النموذج الوحيد الذي يجمع بين الزراعة و مهنه أخرى فـ"أيمن عواد" هذا الرجل الثلاثيني الذي عرفناه من إلحاحه علينا كي يصطحبنا في جولة يجعلنا نشاهد الواحات في برنامج قال انه إعتاد عليه و يتقنه و وعدنا انه سينال اعجابنا و كل ذلك كي يتحصل في مثل هذا اليوم على  أقل من 100 جنية فهو أفضل من القعدة في البيت كما قال، فهو يجمع بين عمله في السياحة و السفاري و بين أرضه التي يرعاها و لا يستطيع الإستغناء عنها و التي عزمنا فيها على كوب شاي و على تمر اقتطفه للتو بعدما تسلق النخلة و اخذ يتغزل في جمال الغذاء الطبيعي بدون تلوث أو مواد كيماوية كما هو مشهور عندنا في القاهرة، و عاد فقال إن السياحة موسمية غير مضمونة و إن كانت شغلانه سهله على حد تعبيره فيقول: يعني مثلاً من ساعة الثورة و الدنيا نايمة خالص لا في سياحة و لا غيره و الحال واقف لكن الأرض شغاله طول السنه و ده ميزتها انها مستقره دا غير ان انا فلاح و بحب الزراعة و انا لامؤاخذه بزرع الخيار و الطماطم و الحاجات اللي تكفي بيتي مش اكتر يعني دا غير لامؤاخذه الفراخ و لبن الجاموسة يعني أكني مابصرفش فلوس على الأكل تقريباً، حتى الملح فيه عندنا بحيرة في اخر الواحة بروح بالحمارة اجمع الملح من على الشط و المدام تطبخ بيه. أخذ أيمن طوال الرحلة يتكلم عن رحلاته في الصحراء و انه يتكلم الانجليزية فيتعمد إدخال بعض المصطلحات الإنجليزية بنكهة صعيدية خالصة ليثبت أنه مختلف عن الصورة النمطية للمواطن الواحاتي التقليدي، ثم يحدثنا عن سفره الى ألمانيا للـ "جيرل فريند" بتاعته على حد قوله رغم انه متزوج و لدية أولاد، و لكن هكذا قال أثناء كلامه الكثير الذي لم يكف عنه طوال الرحلة التي اصطحبنا فيها حتى عرفنا من اهل الواحة فيما بعد أنه رجل مشهور بكثرة الكلام و لكن بعد فوات الأوان.


"عوض" الرجل القاهري الذي يعمل بإدارة فندقه و يأتي كل أسبوعين ليتابع العمل به و يعرف الواحات و أهلها من أكثر من 15 عاماً يرى شيئاً مختلفاً تماماً، فعنده أهل الواحات ينعتهم بالكسالى و أنهم يأكلون و يشربون و ينامون و لذلك أهملوا في الزراعة على حد قوله فشجرة المشمش يقول انها قاربت على الانقراض لانها تحتاج الى رعاية لا يوفرها لها أهل الواحة و اهتمام اكبر من البلح الذي كل ما يقوم به هو تلقيح النخلة "النتاية" من النخلة "الدكر" ثم ينتظر البلح و هو يتدلى عليه من أعلى فيجمعه مره واحدة في السنه في شهر أكتوبر ثم راحة باقي السنة، هذا غير قوله أنهم يبيعون أرضهم الآن لسهولة المكسب و سرعته، لكنه يرى ذلك مؤشر غير جيد للواحات لإن الفلوس مصيرها تخلص في الآخر. على النقيض تماماً يجيئ "سامي عبد السيد" صاحب الست و الثلاثون عاماً ليحدثنا عن الصحراء التي عشق الخروج اليها و التجول فيها و معرفة خباياها و اكتشاف أسرارها فهو قد إعتاد الخروج اليها بسيارة الدفع الرباعي منذ أن كان ذو إحدى عشر عاماً أي منذ ربع قرن تقريباً، حكى لنا سامي بداية اكتشاف السياحة في الواحات فكانت عن طريق خواجه يُدعى "روني"  جاء للواحات منذ ثلاثون عاماً و كان يحب الإكتشاف فأخذ يتعمق في الصحراء حتى اكتشف الصحراء السوداء و الصحراء البيضاء و جبل الكريستال و كل تلك المناطق التي أصبحت محطات بارزة في رحلات السفاري فيما بعد، الخواجة "روني" من عشقه للواحات كتب في وصيته أن يُدفن في الواحات، و بالفعل قبره على تبه عالية في الطريق الواصل بين واحة الباويطي و الفرافرة بالقرب من قرية تسمى "الحيز" و كان هذا بعدما وصل جثمانه الى المطار ليدفن في بلده حتى وصلوا الى تلك الوصية عن طريق الصدفة فكان ما كان. منذ تلك السنوات و بدأت السياحة تعرف طريقها للواحات، كان الأخ الأكبر لـ"سامي" سوّاق أيضاً كأبيهما و كان هناك شخص يُدعى "أحمد عبد الفتاح" يقول سامي أنه رجل يحب الفلوس، و حينما وجد السياحة بدأت في الظهور  استثمر تلك الفرصة و أقام أول "كامب" في الواحات أسماه "أحمد كامب" و أخذ يكلم "لطفي" الأخ الأكبر لسامي لكي يخرج مع الاجانب كسائق على سياراته "الجيب" في الصحراء و يقيم لهم الخيم و يعد لهم الطعام و الشواء على النار ليستمتعوا بتلك الأجواء البرية المميزة، و بالفعل كان يفعل ذلك و يصطحب أخاه الصغير سامي معه في كل شئ و استمر ذلك الأمر 5 سنوات حتى سمحت الظروف لـ"سامي" أن يأخذ فرصته كسائق مستقل لسيارة الدفع الرباعي و يكون مرشداً سياحياً للأجانب هو الاخر و مسؤول بشكل كامل عن تلك المغامرات الصحراوية بمفرده، نجح سامي في رحلة تلو الأخرى و بدأ يتمكن شيئاً فشيئاً من تلك المهنة.


يقول سامي: انا دلوقتي عندي شغلي الخاص فأنا ماسك شغل سفارة التشيك و الشغل دا بيبقى ي يا إما رحلات عادية يا إما رحلات علمية زي الإستكشافات و الاثار و كدا" و في وسط ذلك الكلام نادا على ابنه و نحن جلوس ببيته ليأتيه بالكتب التي بالداخل و يتبعها قائلاً: أنا للأسف مابعرفش اقرأ و أكتب لإني مادخلتش المدارس، ياتى ولده الأكبر البالغ من العمر 15 عاماً و أرانا الكتب التي اهداها اليه العلماء الذين يشتغل معهم كسائق في الصحراء و أخذ يرينا صور الاكتشافات التي اخرجها معهم بنفسه، و يرينا المعالم المهمة في الصحراء الغربية كأمثال الكهوف التي بها رسوم من العصر الحجري للإنسان البدائي و هي مشهورة جدا هناك و عجائب الصحراء المختلفة و هكذا. رحلات السفاري بتكسب خصوصاً لو كانت رحلة للـ"جلف الكبير" لمدة 3 أسابيع إلى شهر مثلاً فهي لو فوج كبير من الممكن أن تصل تكلفتها إلى 300 ألف مثلاً، و علشان كدا فيه ناس كتير بقت بتشتغل في رحلات الصحراء و السفاري، سألته كام تقريباً؟ فقال: الواحات سكانها حوالي 40 ألف نسمه يعني ممكن نقول منهم مثلا حوالي 10% يعني تقريباً 4000 واحد بيشتغلوا في السياحة و دا رقم كبير طبعاً لدرجة ان الواحات بتتمسى "تويوتا سيتي" فسألته: إشمعنى تويوتا صحيح؟ أنا من ساعة ما دخلت الواحات كلها تويوتا و بيتقال عليها "جيب"؟ طب ليه مش "جيب"؟ .. فأخذ يكلمني عن الياباني و جودة الياباني و انها سهلة التصليح و أعطالها يمكن السيطرة عليها و انها سهلة في ميكانيكيتها على عكس "الجيب" فهي ذات أعطال صعبه و قطع غيارها غير متوفرة و اشياء أخرى علشان كدا مش هتلاقي غير "تويوتا"، ثم أخبرني انه مفيش فرق مابين سواق السفاري و الميكانيكي، يعني لازم تكون بتفهم في الاتنين، يعني لو العربية وقفت في وسط الصحرا هتعمل ايه؟ .. و اخد يُعدد النوادر لحكاياته في اعطال السيارات و كيف انه قادر على فك و تركيب اي شئ في السيارة و التغلب على تلك المشاكل التي كثيراً ما يتعرضوا لها اثناء تلك المغامرات الصحراوية الطويلة. يكمل سامي على فكرة ان السفاري بتكسب فيقول: انا مثلاً بنيت البيت بتاعي ده بالخرسانه من فلوس السفاري و الرحلات على قد ما أقدرت، بيتي القديم كنت قاعد فيه لحد السنه اللي فاتت بس كان متهدم و ممكن كان يقع علينا في أي وقت بس بصراحة ماكنش معايا كل فلوس البيت فاتفقت مع المقاول يبني البيت ليا و ابقى اقسط له المبلغ اللي دفعه من الرحلات حسب التساهيل بزيادة شويه و هو مغلي عليا بصراحة بس أعمل إيه؟ كل رحلة في التانية اجيبله 5 الاف في عشره و لسه بسدد فيهم. لكن سامي الان لم يدخل بيته جنيهاً واحدا منذ أكثر من 6 أشهر كما أخبرنا و هو من الفئة التي لا تملك أرضاً يزرعها كأصحاب الأراضي و أحوال السياحة واقفة، فسألته كيف يعيش إذاً فقال: كنت مسلف واحد جاري 1400 جنية زمان و واحد تاني 350 جنية و اخذ يعدد حتى اتم 2100 و قال انه لا توجد مصاريف شهرية ضخمة كالتي عندنا في القاهرة، فالمصاريف  هنا اغلبها أكل و شرب و دا أقصى مبلغ ممكن أتكلفه حوالي 400 جنية في الشهر فالعيش بيتخبز في البيت و الفراخ متربية فوق السطح و الخضار و الفاكهة مش قصة، و اتبعها قائلاً: انا لو عندكوا في مصر كان زماني بشحت انا و عيالي في الشوارع. لكنه أوضح أن كل ذلك شئ و السبب الحقيقي في أنه يعيش في حالة جيده شيئاً اخرة رغماً عن تلك الضائقة المالية الطاحنة التي يمر بها شيئاً اخر، فسألته عنها فقال: السبب الحقيقي هو أهل الواحة، معندناش حاجه اسمها حد يبات جعان و سهل عندنا تكلم حد تقول له اني جاي اتغدى عندك انهارده، هكذا بدون موعد، فحينما ظهر على وجوهنا بعض الإستغراب قال: لاااا الموضوع عندنا غير عندوكوا خالص، إحنا معندناش الحساسيات بتاعتكوا في مصر دي، الواحد بيروح يتعزم على الأكل ببساطة و بشكل عفوي. ثم حكى لنا كيف ان منذ سنوات بسيطة الى الان و لكن بصورة اخف كان البيت تخرج منه "صينية" طعام للبيت المجاور كي يأكلوا منها فيأخذ جزء و يعطي الباقي للذي بجواره، و الذي بعده يعطيها للذي يليه و هكذا حتى تكون "صينية" طعام واحدة و قد أكل منها جميع أهل الشارع أو الحارة، فإللي ماعاهوش كأنه معاه، هكذا كان يحكي سامي بشكل تلقائي و كان هذا أصل لا إستثناءات له و ان الواحات تلك هي أبسط قواعدها فأين يجد مكاناً أفضل من هنا، كما قال. سألنا عم فراج عن المستثمرين و الى أي مدى وصلوا الواحات فأخبرنا: "في شركات كبيرة جت هنا الواحات و اشترت فدادين يامه، يعني عندك جهينه مثلاً، اشترت 400 فدان استصلاح و دقت بير على عمق يجي 1000 متر و جابت أجهزة بالشئ الفلاني و ري محوري و بتزرع و بتبعت على مصانعها في القاهرة و عندك شركات زيها كتير، تساءلنا:" طب بالنسبة للعمال؟ فيه منها من أهل الواحات؟ يعني الناس هنا استفادوا من الكلام ده بحاجه؟" فقال:"أبداً، قليل جداً، لإنه جي بعماله بكل حاجته و مش محتاج حاجه من حد." ثم أتبع: و الشركات دي من الحاجات اللي خربت البلد لإن الميه منسوبه بيقل مع الإستهلاك و بيأثر على السحب الآمن للمياه الجوفيه للواحات كلها و دا شئ خطير طبعاً، و في أبيار كانت فواره دلوقتي جفت و لازم تتحفر أعمق علشان تطلع ميه تاني.


لم تكن تلك الحالة الوحيدة لغزو النيل كما أسماه الدكتور أحمد فخري _الاب الروحي للواحات و مكتشف آثارها و مؤرخ عاداتها و تقاليدها_ أي زحف أهل وادي النيل الى الواحات هروباً منه و من مشاكله فهناك نموذج اخر و ان لم يكن استثمار فج كسابقه و لكن كان استثمار بدأ بشخص مشهور بـ"ميدو" ابن رجل أعمال كبير صاحب أكثر من فندق في شرم الشيخ و البحر الاحمر يتحدث "سامي" فيقول: "ميدو جه من سنين طويلة الواحات علشان بيحب الرالي و بيجي هنا الصحرا هوا و صحابه، فكروا في الأول يعملوا استراحة ليهم طالما بيترددوا كتيرعلى الواحات و تطور الأمر لشراء 100 فدان شاركهم فيها أخويا و تم بناء فندق على طراز القبب و القباب و العقود بواسطة المعماري صديق العائلة "رامي الدهان و سهير فريد" و سمي "ساندس بحرية" و هو لا يعرف بذاك الإسم عند أهل الواحة بل يعرف بإسم "القرية" لأنها كبيرة و مخططة لتكون قرية سياحية".



الناس:

الواحات يعرف بعضها بعضاً جيداً فهي في أصلها عدة عائلات كبرى  تكاثرت و تفرعت و جاء وافدون عليها في العشرون سنه الأخيرة حتى أصبحت بهذا العدد الكبير نسبياً، الواحات يسودها تقاليد راسخة كأغلب المجتمعات التقليدية البسيطة، يحكي سامي ان في الزمن الماضي الذي رآه و هو صغير بعينه أنه لو مر ولد يركب على حمار و مر بقوم جلوس أكبر منه سناً نزل من قبل أن يمر بهم فيمشي بجوار الحمار حتى يختفي عن أنظارهم ثم يعاود فيركب عليه من جديد إحتراماً للكبير، كان ذلك السائد كما يقول و العادي و الطبيعي. أهل الواحات يتزوجون صغاراً من 19 الى 20 سنه للرجال تقريباً و من 9 الى 13 سنه للبنات، فيحكي سامي عن زوجته انها قريبته و جارته في نفس الوقت فغالباً الزواج يكون من نفس العائلة، و يحكي انه حينما كان يمر بالحارة و هو 13 عاماً فتنادي عليه أمها (حماته فيما سيكون) فتطلب منه أن يحمل ابنتها الثلاث سنوات (زوجته فيما سيكون) حتى تنتهي من عمل الطعام أو بعض أعمال البيت، فهو قد تزوج عشرون عاما و ولده خمسة عشر عاماً، و ذلك لان متطلبات الزواج سهلة و بسيطة، فالاب يكون لدية بيت كبير فاذا بلغ احد أولاده و أراد الزواج جاء فطلب منه أن يبني بيتاً_أي حجرة_ بداخل البيت الكبير ليتزوج فيها و هكذا حتى يضيق ذلك البيت الكبير فيبحثون عن مكان اخر خارجه، العفش عندهم أبسط ما يكون فحينما تدخل بيوتهم تجدها عبارة عن "شِلت" على الأرض في غرف المعيشة والاستقبال والطعام على السواء.


و نحن مع "سامي" في سيارته الـ"تويوتا" ذات الدفع الرباعي بعد رحلة سفاري قصيرة في الصحراء القريبة من الباويطي قابلنا عم رضا، وقف سامي لهذا الرجل المسن و أخذ يضحك معه و يتبادل معه الدعابة و هكذا، حتى اذا مشينا و تركناه سألنا: انتوا عارفين عم رضا الراجل العجوز ده؟ .. اهو انا لو ما هزرتش معاه و ضحكت معاه كدا ممكن يشتكيني لكل اللي يعرفه و يقولهم اني زعلان منه، فتعجبنا و استفسرنا منه فحكى لنا قصة عجيبة، قال: عم رضا ده طفش من ولاده من 20 سنه بعد ما كانوا بيعاملوه معاملة سيئة فأتى الى الواحات و محدش كان يعرفه ولا هو يعرف حد، اتعرفت عليه و حكالي قصته و عرضت عليه يجي يقعد عندي فاتبسط من الاهتمام بيه و كنت بتعمد اهزر معاه و اضحك معاه علشان مايحسش انه تقيل او اي حاجه كده، و على حسها فضل قاعد معايا فترة، سألنها: كام؟ فأجاب: 4 سنين. لحد ما جبناله بيت و زوجناه واحدة من الواحات و خلف منها و عايش دلوقتي مبسوط و اخر حلاوة. حينما تسير في أحد شوارع أو حواري الواحات مع أحد أهلها يتردد كثيراً على مسامعك كلمات خالدة مثل "تعالى اشرب شاي" أو "تعالى اتغدى" تلك ليست كلمات عابرة تدل على عزومة المراكبية الشهيرة عندنا في القاهرة بل هي كلمات تقال أحيانا بإلحاح على من تسير معه و غالباً تكون كرماً لضيفه بشكل أساسي و ذاك شئ مشهور هناك، إذا وجد معك ضيف فالناس تتسارع على دعوتك لتناول الطعام من أجل إكرام ضيفك أنت، بل لو كان الداعي الى الطعام رجل أكبر في السن فمن الممكن أن يقولها كفعل مضارع اي: "انتوا خلاص معزومين عندي ع الغدا انهارده"، كأمر منتهي و محسوم إن لم يكن هناك عذر حقيقي. أما عن الشاي فلا يقصد به مجرد كباية الشاي التي يدمنها أهل الواحات بل لأنها تعتبر بداية للجلوس و التسامر و التحاكي و تبادل الأحوال و الأخبار فـ"كوباية الشاي" لها طقوس خاصة بداياً من الكوباية التقيلة أولاً ثم الخفيفة بالنعناع و السكر الزيادة ثانياً، كما انه شاي ليس بالليبتون او ما شابهه من المركات العالمية ذات الإعلانات التليفزيونية و المطبوعة على امتداد كوبري أكتوبر أو المحور، بل شاي مجهول المصدر بالنسبة لي على الاقل اسمه شاي الشيخ الشريب، و الكوباية صغيرة الحجم كما سمعت دليلاً على الكرم لأنها قابلة لأن تملأ أكثر من مره على عكس الكوباية الكبيرة فقد تستحي من طلب ملئها مره أخرى فتنتهي و تنتهي معها الجلسه و الحديث.


الواحة كتجمع عمراني بشري ينفصل الى جزئين أساسيين: جزء يسمى بالواحة القديمة و جزء اخر جديد مبني من الخرسانة، يقول سامي: البيوت القديمة مباني من طابق واحد و أبوابها مفتوحه في أحيان كثيرة و اذا اغلقت فترباسها من الخشب من فرط الشعور بالآمان بين الناس و بعضها، فالشوارع ضيقة و المسافات قريبة و الاسرار تكاد لا يكون لها وجود، لكن مؤخراً فقد تم هجر تلك المدينة القديمة تدريجياً ليسكنوا أهلها في مباني جديدة من الخرسانة، و قل معها الأمان القديم بالتبعية أيضاً فكما يرجع "أيمن" الأسباب: ليس لأن أهل الواحات تغيروا و لكن لكثرة المغتربين الذين استجدوا على الواحة فهناك نازحين كُثر من الفيوم و المنصورة و الشرقية فالبلد لم تعد زي الأول تماماً. و نحن نصعد أحد المباني في صحبة عم فراج رأينا أسطح البيوت يعلوها أطباق الدش بكثرة فسألناه عن كثرة تلك الأطباق و أثارها و ماذا فعلت بالواحات فإغتم و أتبعها بنبرات متحسرة: هو دا اللي خرب البلد، ده و ده و قد أشار في الثانية الى "الموبايل" في يده. طلبنا المزيد من الإيضاح فقال: الفلاح بدل ما كان بيصحى من النجمه بقا يسهر قدام المخروب ده لوش الفجر، دا غير ان العيال بقت عينيها واسعه و قليلة الحيا يعني لامؤاخذه يجي مشهد كدا ولا كدا و الواد مايستحيش يدوّر وشه، و من دا كتير. و استكمالا لتلك التغيرات في المجتمع حدث موقف غريب مع سامي تركنا له "فلاشه" ليضع لنا صور للصحراء من جهاز الكمبيوتر الخاص به على أن نتقابل معه في الصباح لنأخذها منه قبل عودتنا للقاهرة، الذي حدث أن سامي تأخر جداً و كلما نكلمة يعتذر عن التأخير و يضع بعض الحجج لتأخره فحينما وصل فسألناه عن سبب التأخر فقال: الفلاشة حطيت عليها الصور بالليل و نسيتها بعد كدا في العربية و العربية بنسبوها مفتوحه، فـ"الفلاشة" اتسرقت، فاندهشنا لذلك الكلام فهذا عكس ما نسمعه منذ مجيئنا الى هنا انه لا سرقة، فأردف موضحاً: الشباب هنا واكل دماغهم "الموستيكلات الصيني" على حد قوله و كل واحد يقول لابوه يابويا انا عايز اجيب "موستيكل" فالعيال تقوم تسرق حاجتين "تانك البنزين" أو "فلاشة" علشان يحطوها في الكاست اللي بيركبوه للـ"موستيكل"!، فتسائلنا: طب اززاي جيبتها؟، قال بلغت ناس كبيرة عندنا في الواحة اني معايا فوج اجنبي و الفلاشة دي بتاعتهم و السفارة مقلوبة في مصر و لازم يجيبوا الفلاشة و فعلاً 10 دقائق و لقينا بعض العيال جايب الفلاشة بيقول انه لقاها واقعة في الشارع، ثم ضحك.



الطبيعة:


و نحن في جولتنا بالواحة القديمة مع المرشد السياحي لنا في ذلك اليوم "أيمن"، أخذ أيمن يقول لنا: هنا مفيش حاجه من البيوت دي مش من الأرض، الشباك ده معمول من جزوع شجر المشمش و الطوب دا كله طين بنعمله في قوالب و السقف من جزوع النخل او الشجر و اللي بيترص فوقه ده جريد النخل مشغول و الطبقات اللي فوقه دي طين مع قش علشان تحمي البيت من الحرارة الشديدة و الفتحات دي إما علشان تدخل الإضاءة في النهار أو زي كوّه بنحط فيه لمبة الجاز علشان ماكنش فيه كهربا و البيوت اللي معمولة بحجر ده حجر رملي هنا من الواحات مفيش غيره لكن الفنادق اللي بتبني بحجر جيري دي مش بتاعتنا هنا دي من محاجر تانية من الفيوم مش من عندنا، هكذا وعي أبسط السكان بالبيت و مكوناته و جزيئاته و كيفية تكوينها سوياً جنباً الى جنب. لكن برغم جمال التفاصيل و فطرية التكوين أصبح ينقصها الناس، ينقصها معمريها، لماذا رحلوا و هجروا المكان؟ هكذا وجهنا سؤالنا لـ"أيمن" فأجاب: الناس عايزه مكان أوسع و أنظف و اللي عايز يعلى دورين و تلاته و ختمها و كمان علشان المطر. و نحن كنا قد سمعنا جملة "و كمان علشان المطر" هذه من أكثر من طرف فسألناه حينها: هي الواحات ممطرة؟ فأجاب بالنفي التام، فالواحات مقلة جداً في المطر، فلم نفهم لماذا يضع الناس اعتبارات المطر الى هذا الحد و هو نادر و يهملون جانب الحرارة  بيئياً و هو الأكثر تأثيرا على تلك الأفران المسماه بالمباني الخراسانية على خلاف مبانيهم القديمة. في لقاء أخر مع شخص أخر عرفنا سر وضع المطر في الحسبان فإذ بنا و نحن في السيارة مع "سامي و عم فراج" بدأت مطرة خفيفة تلقي قطراتها على الزجاج و ما لبثت أن توقفت فقلنا: بشرة خير و وشنا حلو عليكوا و ابتسمنا في دعابة قاهرية عابرة، فبادلونا بابتسامة و اتبعوها بانهم لا يحبون المطر الى هذا الحد فهم لا يحتاجونها فالماء كثير و الحمد لله على عكس أهل البدو في مطروح بيعملولها أحواض تجميع للميه كبيرة علشان يشربوا و يعيشوا منها هم و دوابهم، فأكمل عم"فرّاج" و قص علينا انه في عام 1992 جاءت مطرة شديدة جدا على أهل الواحات فقال: لحد ما البيوت باشت من المية و الأسقف وقعت على الناس و الميه بقت مغرقة كل العفش و الأرضية و كانت فترة سيئة جدا في الذاكرة الجمعية لأهل الواحات، لذا فتكرار تلك الجملة إتضح أن لها أسبابها و لم تكن مجرد جملة محفوظة فحسب.


لكن في مدينة أخرى تسمى "الحيز" وجدنا مباني بسيطة يعلوها خلايا للطاقة الشمسية فسألنا على ذلك الأمر اللافت للنظر فوجدنا أنها معونة ألمانية جاءت لتلك القرية منذ سنوات لأنها بدون شبكة كهرباء حتى الان فأقاموا ذلك المشروع  كنموذج يشجع على التكرار و اقاموا بعمل دعاية لتلك الفكرة التي تكفي استخدام البيت بشكل بسيط و مناسب و تكلفتها بسيطة أيضاً لتستمر استقلالية تلك القرى و المدن. هذا على مستوى البناء لكن على مستوى الطعام فيظل الإكتفاء الذاتي هو الأصل و اللجوء للسوق العام في أضيق الحدود كالفاكهة مثلاً لانها تأتي من مصر لكن غير ذلك الواحة قائمة بذاتها بل كما ذكرنا فكل بيت يعتبر قائم بذاته أكلاً و شرباً و لبساً فاللبس القديم تحديداً كان يصنع من صوف الجمال و الخراف في الغزل بالنول و صناعة مستلزمات البيوت منها أو من مشتقات جريد النخل كالأقفاص و ما سواها و هكذا، لا شك أن هذا الأمر قل كثيراً لكنه لا يزال موجودا و ينشط بنشاط السياحة تحديداً لأنها منتجات مطلوبة من الأجانب حيث أنها غريبة عن بيئيتهم و طبيعية و تتسم بلمسه فنية فطرية تلقى إستحسان وقبول.


السياسة:


بطبيعة ظروف المرحلة التي تمر بها البلاد يكثر الكلام في تلك الأمور التي جدت على حياتنا منذ 25 يناير 2011 فاجأنا عم "فراج" بأن أهل هذه البلدة لا يعتنون بالسياسة تماماً الى اللحظة و لا تفرق معاهم كمان على حد قوله برغم الدش و الفضائيات، فيوم كـ 25 يناير أو 30 يونيو مثلاً لم  يخرج أحد من أهل الواحة الى الشارع إلا ليومياته الطبيعية، لأن وجود الدولة أصلا هناك رمزي إلى حد كبير، فيقول إن قسم الشرطة و مبنى المخابرات الذي يقع على مشارف القرية مجرد مبنى جاء بفعل الروتين الحكومي، لكن في حقيقة الأمر لا يوجد له قيمة، فأهل الواحة يقومون بأمورهم على أكمل وجه و قوانينهم الداخلية الإجتماعية كفيله بحل أي منازعات دون اللجوء لغيرها. فهمنا أن الواحات في حالة عزلة سياسية كبيرة فيقول "أيمن: الرئيس الوحيد الذي جاء الواحات في القرون الماضية القريبة كان السادات حيث أتى في يوم مشهود و خصصت الواحة مساحة واسعة لهبوط طائرته أمام الجبل الشمالي و هي محاطة بسور من يومها و سمي البئر الذي بجوارها بئر المطار، لأنه بجوار المطار الذي هبطت فيه طائرة السادات، يروي الحاج عبد المنعم الذي تخطى السبعين سنه أنه ذهب الى السادات يومها حاملاً بصلة بحجم البطيخه على وصفه و هرع فرحاً: شايف يا سيادة الريس شايف يا سيادة الريس دا خير الواحات يا سيادة الريس، تلك نادرة يفخر بها ذلك الرجل البسيط لأنه قابل رئيس الجمهورية و سلم عليه و شهد ذلك اللقاء الرسمي الوحيد الذي لن يتكرر لمئة سنه قادمة إن تكرر، أيضا على مستوى المسئولين الأصغر في الترتيب الرسمي، فالواحات تقع في حدود محافظة الجيزة، و مع ذلك اخر محافظ زارها كما يقول "سامي" منذ 15 عاماً، مما دفع عم "فراج" بأن يقول: احنا لو نطول نعمل سور ما بينا و بين مصر لعملنا احنا أصلاً مكفيين نفسنا و مش محتاجين حاجه من حد هما بس يعدولنا السياح و ابتسم ساخراً. هذا غير قانون الواحات الداخلي المعروف بوضع اليد و الذي لا تستطيع الدولة حتى الآن التعامل معه، فعلى امتداد الصحراء تجد كثبانا يعرفها خبراء السير في الصحاري و يشاورون بإصبعهم أن هذه أرض فلان و هذا أرض علان هكذا بالنظر، و لا يُباع متراً واحداً إلا بإسقاط كتابي من واضع اليد الأول لمن سيسمح له أن يضع يده عليها بعده، هذا خلاف الإجراءات الحكومية الروتية التي لا تغير في تلك المعادلة شئ، و تلك قضية شهيرة في صحراء مصر بشكل عام و ليس خاصة بالواحات ذاتها فقط. حدث موقف غريب أثناء رحلة السفاري مع "سامي و عم فراج" فقد وقفنا قليلا في وسط الصحراء  بجوار تل صخري صغير نلتقط بعض الصور و نتمشى قليلاً، و إذ بنا نسير رأيت كسر فخار متناثر في وسط الصحراء، فتعجبت، ما الذي اتى بهذا هنا. وجهت تساؤلي لعم "فراج" فال لي ببساطة و دون اعتناء": دي أثار متكسرة. فتحت عيني مستفهما و مدققا في ملامح وجه أيمازحني أم أن الأمر كذلك فعلاً، فإذ به حقيقة، فقد أسهب في شرح أن الفخار هو أسهل شئ يتم كسرة في فتح أي مقبرة أو مكان به أثار فهي خسائر طبيعية للحفر و التنقيب و هذا شئ معروف، فالتقط قطعة متكسرة لونها أخضر ناصع فقلت له: إيه دي؟ ، تأمل فيها قليلاً و قال: دي فرعونية. ركبنا السيارة مره اخرى و مشينا و كان هذا كلامنا باقي الطريق، قال عم "فراج": الواحة القديمة بالذات نايمه على كنز آثار لا ينضب. فقلت: بتحفروا يعني؟ رد قائلاً: من غير ما نحفر و الله فيه حاجات بتطلع كدا لوحدها، و أخذا يتبادلا نظرات بينهما توضح ان شيئا ما لا يفهمه سواهما في تلك الجلسة و ابتسما لحداثة معرفتنا بتلك المعلومات البديهية عندهم، فك لي طلاسم تلك الحالة "سامي" حينما زرت بيته القديم و اراني حجراً وجده بالصدفة و هو يبني بيته من سنين طويلة، كان يضعه على جنب دون اعتناء و ادار لي الحجر فإذ عليه نقوش زهره اللوتس بدون ألوان فهي تبدو للعيان قطعة أثرية فرعونية و لكنه لم يعتني بها فنحاها جانباً و خلاص، هذا بدون قصد فما بالك بمن يحفر متعمداً ليصل لمومياوات او حُلي أو ما شابه، قالوا لي: أن هذا كثير و ليس به حرج بين أهل الواحات و بعضهم، فهم يعرفون تلك الأشياء جيداً و يجيدوا تثمينها و الى من يبيعونها. فهمت إذا أسباب هجرة أهل الواحة القديمة لها و عدم بنيانهم مباني جديدة محل القديمة، و ذلك لأمر مرتبط بالأثار فهي تقف لهم على قدر استطاعتها و تجبرهم على ترك المكان لأن هذه منطقة أثرية أو على أقصى تقدير كانت منطقة أثرية!. أثناء تكملة حديثنا في تلك الرحلة الثرية وجدت عم "فراج" يقول: انتوا مستغربين ليه كدا ان فيه اثار طب ايه رأيكوا انكوا ليكوا هدية عندي حاجه بسيطة كدا و وعدنا أن يأتي لنا بها قبيل المغرب و قد كان، دورق فخار صغير وجد في مقبرة فرعونية مخصص لتوضع فيه أحشاء الميت، بقطع النظر عن تلك الكلمات التي انهت الجملة الأخيرة و لكنها في النهاية أثر فرعوني حقيقي و هذا يكفي، الغريب ليس ذلك، الغريب فعلاً أن شخصاً اخر هو من أتى بها و ليس عم فراج، و حين أستفهمت عن ذلك من "سامي" رفيق الرحلة قال لي: هي ممكن تكون مش بتاعته أصلاً، فاستغربت فقال: نعم ممكن يكون عارف بس انها عند الراجل ده، و عادي عندنا في الواحات انك تتصل على فلان و تقوله اعطي لفلان كذا كهدية، عادي. هنا وقف الكلام و انتهت الرحلة و امتد صمت طويل!