ميرندا بطعم البرتقال، لبان بطعم النعناع، عصير بطعم التفاح، شيبسي بطعم الكباب.... (الطعم) هو صورة من صور المحاكاه لشئ ما ومنفصلة بالكلية عن حقيقة ما يراد محاكاته، يعني هو مجرد خلطة معملية من شوية مواد كيميائية على مكسبات طعم وريحه. .
فطعم البرتقال مثلا عمره ما هيكون البرتقال ذاته .. التفاح، النعناع وبالتأكيد الكباب.. كل الأطعمة دي تحولت مع الوقت لذات مستقلة وكل مبرر وجودها في حياتنا وتعرفنا عليها انها كانت بتحاول في وقت ما تحاكي شئ حقيقي إحنا عارفينه ... فممكن تلاقي واحد مثلا عمره ما كان بيحب الطماطم وبيجيلوا حساسية منها مثلا.. بس بيحب الشيبسي اللي بطعم الطماطم وما بيحصلوش منه حاجه .. ودا لإن الاتنين حاجتين ملهومش علاقة ببعض تماما والعلاقة الوحيدة اللي بينهم هو توهّم إن فيه علاقه ما بينهم أصلا. .
لو حاسس الموضوع خد أكبر من حجمه وإني بنظّر للشيبسى والفانتا تفاح فإنت كدا تمام جدا ... لإن أكيد مش هو دا اللي عايز أقوله.. ودا مجرد مثال للتقريب ومدخل للي جاي..
اللي عايز أتكلم عنه هو المنتج المعماري والصورة الفوتغرافية وعلاقتهم ببعض في وقتنا الحالي
في المجال المعماري أو التصميم عموما دلوقتي مشهور جدا إنك تسمع النصيحة اللي بتقول إنك محتاج تصور المبنى مثلا بكاميرا احترافية مع مصور محترف بردو علشان تعرف تسوق للتصميم بتاعك .بشكل إحترافي .. دا كلام ظاهره قد يكون لا شئ فيه.. فالتصميم ممكن يتظلم لو ما أتصورش بشكل كويس فعلا وخرج في صورة لائقة... لكن فيه شوية ملاحظات كتير حوالين هذا المعنى هوضحه في اللي جاي
المشكلة الحقيقية بتتلخص بالنسبالي في٣ نقط ... النقطة الأولى هي سلطة الصور في عصر (الميديا) اللي احنا بنعيش فيه... لو سألت نفسك انت بتشوف كم صور قد ايه في اليوم سواء كنت واعي لدا او لا واعي وركزت هتلاقيه اكبر بكتير في الحقيقة من قدرة استيعابك .... ودا اللي بتعمله كل الشركات في سباقها الدائم الدؤوب في الاستحواذ على مساحة اي كيلو بايت فاضي من ذاكرة مخك في وسط هذا السيرك الإعلاني اللي بنعيش فيه علشان تحشر فيه الصورة بتاعتها وتزود بالتبعية فرص تفاعلك معاها في المستقبل كزبون محتمل .... الصورة تحولت إلى لغة عالمية بديلة بيفهمها كل الناس بكل مستويات ادراكهم ومنتشرة جدا وسهلة وبسيطة وليها سلطة وحضور طاغي ما ينفعش ننكر وجوده او تأثيره
النقطة التانية هي انفصال الصورة عن الحقيقة ودي نقطة اتكلم فيها ناس كتير زي سوسور وجي ديبور وچان بودريارد وغيرهم .. والخلاصة لو ممكن نقربها ببساطة هي حاجه زي موضوع (الطعم) دا... بس ماوقفوش عند موضوع المحاكاه... يعني شيبسي عايز يعمل فيها انه زي طعم الكباب... لا مش كدا... تخيل معايا إن فيه طفل عمره ما أكل كباب أو ريش زي حفيد عفاف شعيب .. بس بياكل شيبسي بالكباب .. ومع الوقت بدأ يبقى شيبسي الكباب هو ((المرجع)) لطعم الكباب الوحيد المعروف بالنسباله ... فلما يجي في يوم من الايام وياكل الكباب اللي بجد.. هيبدأ ينسبه للطعم اللي هو أصلا مش حقيقي ويبقى ساعتها (الشئ اللي مش حقيقي اللي هو الطعم) تحول دلوقتي إلى المقياس والمعيار اللي بيحتكم إليه في تقييم (الشئ الحقيقي اللي هو الكباب نفسه) عكس بالظبط لما بدأ الموضوع في الأول تماما... طب ايه علاقة كل الكلام دا بالعمارة والصورة الفوتغرافية دا اللي هيبان في آخر نقطة..
النقطة التالتة .. الصورة الفوتغرافية لما بتتصور لمبنى بيكون في الغالب لحظة تجميد وحالة اختزالية واستثنائية ... يعني مثلا المكان بيفضى بشكل معين .. كل حاجه بتلمع .. لا مجال للديفوهات غالبا ما بيكونش فيه بني آدمين إلا نادرا بالذات لو موديل (سيدة جميلة طبعا) وبيتعمل بعد اخد اللقطة بكل تلك الإجراءات الاستثنائية العنيفة فقرة التعديل وتظبيط الإضاءة والألوان ونشيل الحته دي ونداري الحته دي ونبدل الحته دي... وهكذا مما يعلمه جيدا أي حد (اندرايدج) حتى معاه موبايل بكاميرا واحدة وبينزل صورة ليه على انستجرام... دا كله عباره عن ايه... دا مش المبنى (الحقيقي).. ولا مجرد صورة عفوية بسيطة للمبنى ولا الهدف انها تبرز حاجه معينة فيه تستحق الإبراز..... دا كدا دخل في حالة من حالات (المحاكاة) للمبنى _ودا طبعا مش ابيض واسود دي درجات رمادي كتير_ .. وإخراج شئ آخر ذو ذات منفصلة بالكلية عن حقيقته.. زي (الطعم) كدا .. والمشكلة إن تجميد لحظات معينة وبالذات والمبنى جديد قبل ما يتبهدل ويتعامل معاه الناس ويغيروا الصورة المثالية اللي كان عايزها المعماري الفذ... كدا اتجمدت خلاص في الصورة... ودا أصبح هو (المرجع) اللي هو كان في الأصل مجرد محاكاه ليس أكثر ولا أقل ... ويبدأ تدريجيا الناس لو لسه ما زاروش المبنى بالذات والصور انتشرت يتحول عندهم الموضوع زي الطفل اللي كان بياكل الشيبسي بالكباب كدا... يبدأوا يشوفوا المبنى بعيون الصورة ودا أخطر ما في الموضوع.... لإنها أصبحت عمارة ذات بعد واحد.... حاجه (مسطحة كدا لا ليها لون ولا طعم ولا ريحة) تحول المبنى إلى مجرد متحف معماري حي لألبوم صور .. المبنى دلوقتي هو اللي بقى بيحاول يكون على قدر الصورة وبيحاول يوصلها ولو ماعرفش فالمشكلة فيه مش في الصورة
دا اللي بيحصل مثلا في ساندويتش ماكدونالدز وهو بيتصور صور تجوع وهو في الآخر حته كاوتش ماسخه مستديرة الشكل محطوط عليه شوية صوص .. فسواء مش هيعجبك طعمه او هتقبله هيفضل المحرك الحقيقي ليك هو صورة الساندوتش الذهنية اللي ريقك بيجري عليها بمجرد ما تغمض عينيك وتفتكرها مش الساندوتش نفسه... هتفتكر الصورة مش الطعم ... وهتروح تجيبه تاني وتالت علشانها وهيفضل طعم الساندوتش الحقيقي مسأله ثانوية جدا مش مهمه بالنسبالك كمستهلك ... دا لو نفع مجازا مع ساندوتش ماينفعش أبدا مع مبنى معماري ليه ابعاد كتيرجدا تانية أكثر تعقيدا
المبنى المعماري من السخافة في عصرنا إن الصورة بقت أسبق في أحيان كتير من الإستخدام الحقيقي للمبنى بل فيه مباني كتير بقت كل علاقتنا بيها هي شوية صور فقط ... والقدرة على إخراج صور متبروزة انستجراميه هايله أصبح عند كثير من المعماريين هدف في ذاته وكأن المبنى تحول إلى موديل بتمشي في فاشون شو وعماله تجتهد في ابراز مفاتنها المعمارية بغرض التصوير .... لو اعتبرنا المبنى زي الإنسان ... فالإنسان ممكن يتصور صورة فحيتة بس الصورة الفحيتة دي غير قادرة على إظاهر أبعاد أخرى كتير غير مرئية عند هذا الإنسان لإنه مركب مش ذا بعد واحد تكفيه صورة لإظهاره .... فمثلا مش بتقول هو بخيل ولا كريم ... صعب الصورة توضح هو سرق قبل كدا ولا لأ ابوه عايش ولا ميت دماغه نضيفه ولا محمد رمضان ... كل دي حاجات مش بالضرورة الصورة تقدر تلم بيه كلها وتوضحها
الجزء المرئي والجزء غير المرئي من الانسان هيسري بالتبعية على الجزء المرئي وغير المرئي من العمارة ... الصورة للمبنى مش هتكون كافية إنها تقول حقيقة علاقة المبنى مع المجتمع المحيط ايه بالظبط مثلا .... او تقدر ترصد تحولها وتغيرها .. صعب تنقل حقيقة تجربة الإنسان في الفراغ ورحلة انتقاله النفسي من نقطة إلى نقطة ... صعب تقول هو المبنى في الواقع العملي المعاش بيشجع على التفاعل بين الناس وبعضها ولا بيعمل العكس .... صعب تقول حقيقة الراحة الحرارية للناس اللي فيه ايه على اختلاف فصول السنة وتعاقبها واختلاف الفراغات في نفس ذات المبنى ..... وصعب تبين اذا كان المبنى انساني ومرن ولا وظيفي فقط وساقع ومنزوع الروح ... صعب تقول الهدف والمقصد من بناه انه كان عايز يعمل اضافة حقيقية ونوعية من معماري بيتعامل مع مهنته بجديه وبدافعةالمسؤولية ... ولا هو مجرد سبوبه ولا استعراض لعضلات المعماري ليس إلا .... صعب تقول الزمن بيتفاعل ازاي مع المبنى على الحقيقة وازاي بيتغير وبيتحول وليه.. دي كلها وغيرها كتير أشياء مما لا تستطيع (الصور التسويقية الدعائية) للمبنى إنها تبينها أو تظهرها أو بمعنى أدق مش هتبقى عايزه تبينها أو تظهرها ... لإن التصويرالمعماري دلوقتي بقى محصور فقط في محاولات بائسة لبروزة كل ما يمكن اعتباره لقطة فنية جميلة من الناحية البصرية للمبنى المعماري ... دا إذا كان فيه.